منذ أشهر، تحاصر "قوات الدعم السريع" السودانية، وهي قوّة عسكرية مستقلّة، مع جماعات مسلّحة متحالفة معها، مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور. إذا سقطت هذه المدينة، من المرجح أن يؤدي ذلك إلى موجة أخرى من عمليات القتل. يحدث هذا في ظلّ غياب تام لـ"الأمم المتحدة" أو أي تواجد دولي أو إقليمي آخر مهمّته حماية السكّان المدنيين هناك.
قتلت قوات الدعم السريع والجماعات المسلحة التابعة لها بالفعل آلاف الأشخاص، معظمهم من المساليت، في الجنينة في غرب دارفور والمناطق المحيطة بها، مما أجبر أكثر من نصف مليون شخص، معظمهم من المساليت، على الفرار إلى تشاد المجاورة. يتمثل الخطر الآن في استهداف مئات الآلاف من النازحين الفارين من العنف في أماكن أخرى في دارفور الذين يجدون ملجأ في الفاشر.
قراءة التطورات الجديدة المروّعة في دارفور تعود بذاكرتي إلى يوليو/تموز 2023، عندما سافرت مع زملائي إلى شرق تشاد لجمع أدلّة على عمليات القتل الجماعي في الجنينة.
في يوم حار من شهر يوليو/تموز، كنت ومترجمتي نمشي في الضواحي القاحلة لبلدة أدريه الصغيرة شرق تشاد، حيث يقيم مئات الآلاف من الأشخاص، معظمهم نساء وأطفال من عرقيّة المساليت، بعد أن فرّوا من العنف في غرب دارفور. كان الرجال غائبين بشكل ملحوظ، وكانت الأسر تعيش في ملاجئ مؤقتة مكوّنة من أربعة أوتاد وقطعة من القماش، بالكاد تحميهم من أشعّة الشمس الحارقة أو الأمطار الغزيرة. لم يكُن في وسعهم الوصول إلى الكهرباء أو الماء الجاري أو الغذاء بشكل منتظم.
كانت مترجمتي، وهي عضو بارز في مجتمع حقوق الإنسان لعرقيّة المساليت في الجنينة، تعرف الجميع تقريبا. بعد كل بضع دقائق، كان سيرنا في هذه المستوطنة المؤقتة الواسعة تتخلّله تحيّات بالتصفير، بدت مبهجة تقريبا.
لكنّ المعاناة الشديدة التي تعيشها كلّ أسرة صارت أوضح لما وصلنا إلى صديقتها المقرّبة زهراء خميس إبراهيم. عندما التقت الامرأتان، أمسكت كل منها بيدي الأخرى، ورفعتا راحتيهما إلى أعلى، وبدأتا تتهامسان بالتعازي. ثم انهارتا في أحضان بعضهما البعض وبدأتا تبكيان.
أعدِم ابن زهراء (17 عاما) بوحشيّة على أيدي ميليشيا عربيّة مسلّحة بينما كان هو وأصدقاؤه يحاولون الهروب من عمليات القتل الجماعي المروّعة في الجنينة يوم 15 يونيو/حزيران، وهو نفس اليوم الذي فرّ فيه عشرات آلاف المدنيين إلى تشاد.
رغم الخسارة الفادحة لزهراء، إلا أنها استمرّت في توثيق حالات العنف الجنسي، وهو عمل دأبت على القيام به لسنوات بصفتها مؤسسة لمنظمة تدعم الناجين. في المخيّم، قدّمتني إلى طالبة اقتصاد نحيفة وخجولة (28 عاما)، طلبت عدم ذكر اسمها.
في خيمة شديدة الحرارة، جلست قبالتي على مرتبة. تجمّعت حبات العرق على جبينها وهي تُحدّثني عن ثمانية رجال مسلّحين، اثنان منهم في زيّ قوات الدعم السريع وستّة في أزياء مدنيّة، دخلوا منزل أسرتها في 8 يونيو/حزيران. ضربوا أقاربها، وأطلقوا النار على والدتها في ساقها، واغتصب أحدهم الطالبة. عندما وصلت إلى هذا الجزء من القصّة، بدا جسدها وكأنّه ينهار، كما لو كانت تحاول الاختفاء. ارتبكت جسديا لما سألتها إن كانت تظن أنها ستعود إلى الجنينة يوما ما، وهزّت رأسها بقوّة.
قابلت ابنة عمّها (24 عاما)، التي طلبت أيضا عدم ذكر اسمها. اغتصبها رجل مسلّح لما كانت تحاول إخراج ملابس أطفالها الثلاثة من منزلها الذي نهبته قوات الدعم السريع والميليشيات العربيّة قبل عدّة أسابيع. كانت يداها ترتجفان وهي تخبرني أنّ دورتها الشهريّة تأخّرت، وتوسّلت قائلة: "لا أستطيع أن أحمل مرة أخرى، ارجوك ساعديني في إيجاد حلّ". عندما تمكَّنَت أخيرا من الوصول إلى خدمات صحيّة في اليوم التالي، علمت فعلا أنها حامل.
بعد بضعة أيام، قابلنا الصديق المفضل لابن زهراء. كان مع ابنها عندما أجبر رجال مسلّحون متحالفون مع قوات الدعم السريع كلّ من فرّ معهم على الانبطاح على صدورهم على الأرض. قال لهم أحدهم: "معي عشر رصاصات، وأنا مستعدّ لإطلاق النار على من أريد".
قتل الرجل ابن زهراء برصاصة مباشرة في الرأس وقتل اثنين آخرين من أصدقائهما المراهقين. أخبرني الصديق (17 عاما) بذلك، وعيناه تنظران إلى أسفل. في نهاية المقابلة سألته كيف يتعامل مع الوضع، فأجابني: "لا أعتقد أنني بخير. لا أستطيع النوم ليلا، فقط أتذكّر كلّ الأشياء التي رأيتها".
كان حجم المعاناة بين المساليت في أدريه واضحا، وأحيانا لا يطاق. رأيت ناسا يبتسمون ويضحكون مع بعضهم البعض، ثم يصمتون ويحدّقون في الأفق البعيد، كما لو أنهم يتذكرون الرعب الذي شاهدوه.
رأيت هذا النوع من الحزن في الماضي – لما قابلت أيزيديات ناجيات من جرائم القتل والاستعباد الجنسي التي ارتكبها "داعش" في العراق، وروهنغيا ناجين من عمليات القتل والاغتصاب الواسعة على يد جيش ميانمار في 2017، وفلسطينيين في مستشفى في شمال مصر الشهر الماضي، ممن أصيبوا في فظائع ارتكبتها القوات الإسرائيلية في غزّة.
هذه الأزمات الثلاثة حظيت باهتمام وغضب عالميين، كما يجب أن يكون، لكن الانتهاكات التي تعرّض لها المساليت على امتداد العام الماضي تكاد لا تُذكر في الأخبار.
من مكان إقامتي في أوكرانيا حاليا، أشاهد أيضا التناقض الصارخ في الغضب العالمي تجاه الفظائع التي ترتكبها القوات الروسية هنا، والاستجابة الصامتة لما يحدث في السودان.
يعاني الصندوق الذي خصصته الأمم المتحدة للأزمة في السودان من نقض شديد في التمويل رغم أنّ ضحايا هذا النزاع معرّضون للخطر أكثر مما قد يُمكن للفرد تصوّره. نتيجة لذلك، فإنّ الخدمات الطبيّة في أدريه محدودة، والخدمات النفسية والاجتماعية محدودة للغاية رغم الحاجة الهائلة إليها بين النازحين.
من المهمّ أن يكون هناك اهتمام من الحكومات الأجنبيّة ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكوميّة. هذا الاهتمام ضروري لضمان دعم إنساني مُنقذ للحياة، وتحقيق المزيد من التدقيق والعدالة في نهاية المطاف بالنسبة إلى المتورطين في الفظائع الجماعيّة.
في وقت لاحق بعد الظهر، بدأ المطر فجأة يهطل بغزارة، لكنّ الناس لم يهرعوا إلى ملاجئهم خوفا من تعرّض ممتلكاتهم للجرف، كما يمكنك أن تتوقع. أغلبهم لا يملكون شيئا، فقد سرق مقاتلو قوات الدعم السريع وحلفاؤهم ما يكان يملكه هؤلاء الناس لما فرّوا من دارفور.
بعثت لي زهراء برسالة قبل أيام قليلة، بينما كان الفارون من الفاشر يتدفقون على الحدود مع أدريه. قالت إنّ الوضع في مخيّم اللاجئين أصبح أسوأ مع ارتفاع الأعداد وتضاؤل الموارد.
كما دعوْنا في تقرير نشرناه مؤخرا حول دارفور، يتعيّن على الأمم المتحدة و"الاتحاد الأفريقي" إرسال بعثة لحفظ السلام في دارفور، مهمتها حماية المدنيين، ومراقبة انتهاكات قانون حقوق الإنسان والقانون الإنساني، وإرساء الأساس لعودة آمنة للنازحين. في غياب قوات هناك تعطي أولويّة لحماية المدنيين، يتمثل الخطر في تكرار الفظائع التي عاشتها زهراء ومئات آلاف الآخرين ليس فقط في الفاشر، وإنما أيضا في بلدات ومدن أخرى في دارفور.